الإرادة الحرة والصحوة الروحية المزيفة:
بينا سابقا أن الإرادة الحرة غير موجودة فكل إرادة هي نتاج لإرادة أخرى، بمعنى آخر هي سلسلة من الإرادات متعلقة ببعضها البعض أو سلسلة من الأفعال وردود الأفعال المختلفة، من هذه الناحية فلا توجد إرادة حرة مستقلة، إلا في حالة عدم الفعل، وقد قلت مرة أن الإرادة الوحيدة تكون بعدم الفعل.
فكل فعل مهما ظهر لنا أنه نتاج لاختيارنا وإرادتنا هو في الحقيقة مستمد من إرادة أخرى سبقت، كمثال إن طلب منا أحدهم الاختيار بين شيئين أو أكثر فنحن نظن أن اختيارنا ناتج عن إرادتنا، لكن إن تعمقنا في كيفية اختيارنا فنجد أن اختيارنا أصلا منوط بمعطيات سابقة ناتجة عن تجاربنا، ناهيك عن كون هذه الاختيارات كلها محددة مسبقا ونحن ننتقي منها فقط (إحصاء عقلي)، و بهذه الطريقة فكل فعل نقوم به لا يعبر عن إرادة حرة، إلا أن المصفوفات توهمنا بوجود هذه الإرادة الحرة عند تفعيل ما سميته بالوضع الخاص على حساب الوضع العام، فتكون هذه الإرادة الحرة هي لاوعي أصلا لأنها تعبر عن القرين والاقترانات، ونحن غير واعين ومدركين لها.
هناك تجارب كثيرة ونظريات في هذا الخصوص عن الإرادة الحرة؛ حيث حاول علماء النفس والفيسيولوجيا وكذلك الأعصاب، مراقبة عمل الدماغ والجهاز العصبي لمعرفة كيف تصدر الأفعال منا، وهل فعلا نمتلك إرادة حرة؟ في تجربة مشهورة جمعوا عددا من الأشخاص وأوصلوا أدمغتهم بأجهزة قياس لمراقبة نشاطهم العصبي، أما التجربة فتقتضي أن يثني الشخص إصبعه متى أراد ذلك، ولضبط الأمر أكثر وضعوا ساعة أمامهم ليحددوا متى فكروا في ثني إصبعهم، والنتيجة أنهم سجلوا نشاطا عصبيا للدماغ قبل 500 ملي ثانية من الحركة، بينما أدرك المشاركون نيتهم قبل 150 ملي ثانية فقط، و تفسير هذه النتيجة أن الدماغ يتخذ القرار بالفعل قبل أن يدرك الشخص ذلك أو أن يعي به، أما النشاط العصبي المسجل فسموه بـ إمكانية الاستعداد، عارض الكثيرون نتائج هذه التجربة، واعادوها بطرق مختلفة وبأدوات قياسية أكثر كفاءة، وفي تجارب أخرى وجدوا هناك تزامنا للنشاط العصبي مع لحظة التفكير في القيام بالفعل ويمكن اختصار النتائج فيما يلي:
التجارب: أظهرت وجود نشاط عصبي يسبق الحركة الإرادية.
التفسير التقليدي: النشاط العصبي يسبق القرار الواعي يعني اللاوعي حدد سلفا القيام بالفعل قبل أن يعي الشخص نفسه بنيّته لفعل ذلك الفعل، وبالتالي لا وجود لإرادة حرة.
تفسير معارض: النشاط العصبي قد يكون عشوائيًا ويتزامن مع اتخاذ القرار وبالتالي توجد إرادة حرة، والأمر غير متعلق باللاوعي.
التفسير الثاني يلغي فكرة أنه لا توجد إرادة حرة وأن نشاط الدماغ ذلك هو نتاج عن تقلبات عشوائية للنشاط العصبي وحالة الاستعداد للفعل ماهي إلا عملية لتسهيل اتخاذ قرار الفعل بدل البقاء في حيرة لا نهائية.
في الحقيقة إن التفسيرين رغم أنهما متعارضان، إلا أن كلاهما يثبت وجود نشاط عصبي دائم وهو عبارة عن قمم وقيعان في موجات الدماغ تسبق الأفعال ونية القيام بها، وفي حالة استقبال المعلومات من الخارج فذلك النشاط العصبي يقوم بتقييمها واخراج احتمال واحد يفسرها وهو ما نقوم به فعلا،( هذا أشبه بما عبرت عنه بعملية الاحصاء العقلي أو معدلات التغير الفورية وميل المنحنيات). بمعنى أنه يختار الترجمة المتناسبة مع المعطيات الخارجية والداخلية وبالتالي تكون هذه الترجمة للمعلومات محددة سلفا بسلسلة من الأسباب والنتائج الجينية والبيئية والخلايا التي تُشكِّل أدمغتنا (النمطية والوضع الخاص لنا)، وقد بقي هذا السؤال مفتوحا لحد الآن وانقسم العلماء بين وجود إرادة حرة وعدم وجودها بسبب تأثير الجهاز العصبي الذي يتخذ القرارات قبل أن نعي بها. لكن الراجح بين علماء الأعصاب أن جهازنا العصبي يتصرف قبلنا ويتحكم في الجسد ككل المادي والنفسي والهرموني.
حقيقة الجهاز العصبي والهرموني ودوره في الصحوة الروحية المزيفة:
إن سلمنا بالنظرية السابقة فهذا يثبت أن الإرادة الحرة في هذه الحالة تكمن في عدم الفعل أو عدم الاستجابة لمعطيات الجهاز العصبي لأنه من يخلق تفاعلات عصبية و حالات مزاجية تؤثر على كل الأفاتارات وتتحكم بها، وللخروج من هذه الحالة نحتاج إلى الوعي الحقيقي الذي يمكننا من الخروج من حالة الوضع الخاص إلى العام.
كما يمكن القول استنادا لهذه النظرية أن الجهاز العصبي الهرموني هو من الإله الأدنى ويسيطر علينا في حالة غياب الوعي، فوفقا لما سبق، الجهاز العصبي والهرموني مجهز غريزيا ليتفاعل مع المعطيات الخارجية من خلال الحواس أي هو موجود ليتعامل مع التجربة المادية فقط ومعطيات المصفوفة الخارجية، فهما يتفاعلان مع بعضهما البعض ( يعني يعمل فقط ضمن الأنماط المتخصصة أو الخاصة).
من ناحية أخرى فالصحوة الروحية المزعومة تؤكد على تفعيل هذه الأجهزة وتسعى لتنشيطها أو تفعيل الجينات كليا وهذا هو قيامة الجزء في مقابل الكل أو تعزيز الوضع الخاص، حيث أنهم يرون أن وعي الإنسان هو عبارة عن جهازه العصبي ودماغه وجيناته المتطورة والمتميزة عن باقي المخلوقات( التفوق والتميز الجيني)، وبالتالي يتميز بها عن غيره، وهذا في الحقيقة وعي محدود بحدود مدارك الإنسان الحسية وهو نفسه العقل المحدود ويدخلنا في حالة اللاوعي بسبب طغيان الجينات.
لكن إن نظرنا إلى هذا التعريف فنحن نتشارك الجهاز العصبي والهرموني مع كائنات كثيرة، ومن هذه الزاوية تصبح كل الكائنات ذات وعي لكن هو متدرج ويقاس نسبة إلى تطور الكائن الجيني فقط ( ويثبت أيضا أننا دالة مشتقة من الحيوان، اشتقاقات أكثر للغرائز)، حتى أن فكرة إدراكنا أننا مثلا بشر ونختلف عن باقي الكائنات وعندنا مشاعر وندرك وجدودنا المكاني والزماني باعتباره ميزة لنا، هي لا تعني تميزنا عنهم لأننا نتشارك هذه الأمور مع الحيوانات أيضا، أما الوعي الحقيقي فهو كما عرفته طفرة في الجينات وغير مشتق منها وليس ميزة أو غريزة مشتقة، وهو ما يمكننا من الخروج من الحالة الخاصة التي أصلا تعبر عن حدة في اللاوعي نحو الوضع العام.