حكمة إخوان الصفا -الملائكة والشياطين و نشوء الأنفس في الأجساد البشرية-

Akada Toureia
0

حكمة إخوان الصفا -الأرواح الملائكية والأشباح الشيطانية و نشوء الأنفس الجزئية في الأجساد البشرية-

🔹 إخوان الصفاء وخلان الوفاء:

ظهرت جماعة اخوان الصفا وخلان الوفا في (ق4هـ /10 م) موطنها البصرة ولها فرع في بغداد،  يكتنف الغموض هؤلاء الناس فلم يعرف منهم إلا القليل من الأشخاص، من أقوالهم "أن الشريعة طب المرضى والفلسفة طب الأصحاء" وهذا يحيلنا إلى مقولة " الوقاية خير من العلاج " فالعلاج يقتضي كون الشخص مريضا، أما الوقاية فلا تقتضي ذلك كما تجوز  حتى للشخص السليم والصحيح وهذا مصداق ما يقولون؛ الأنبياء يطببون المرضى حتى لا يتزايد مرضهم وتحل العافية أما الفلاسفة فإنهم يحفظون الصحة على أصحابها حتى لا يعتريهم مرض،  الفلسفة تقتضي البحث في الأسس السليمة للتفكير والسلوك وما إلى ذلك،  فهي ليست شريعة أو تعاليم فلسفية بل هي تصحيح لأسس التفكير.

 هناك مراتب لهؤلاء الإخوان وينقسمون على أربع مراتب:

1- مرتبة ذوي الصنائع: تكون من الشبان الذين أتموا الخامسة عشرة لما هم عليه من صفاء الجوهر النفسي وجودة القبول وسرعة التصور،  ويسمونهم بالاخوان الأبرار الرحماء.

2- مرتبة الرؤساء ذوي السياسات: وتكون من الذين أتموا الثلاثين وعُرفوا بالحكمة والعقل، ويسمونهم بالاخوان الأخيار والفضلاء.

3- مرتبة الملوك ذوي السلطان: وتكون من الذين أتموا الأربعين وعرفوا بالقيام على حفظ الناموس الإلهي، ويسمونهم الاخوان الفضلاء الكرام.

4- هي أعلى مرتبة وتكون من الذين اتموا الخمسين وأشبهوا الملائكة بقبول التأييد ومشاهدة الحق عيانا والوقوف على أحاول الآخرة.

لديهم 52 رسالة بحثية مصنفة تحت أربعة عناوين رئيسية وهي: 

-القسم الرياضي -الجسمانيات الطبيعيات -الجسمانيات الطبيعيات والنفسانيات العقلايات -العلوم الناموسية الإلهية والشرعية الدينية.


🔹الملائكة والشياطين: 

جاء في فصل ماهية الشياطين وجنود إبليس أجمعين من رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء: " اعلم أن النفوس المتجسدة الخيرة ملائكة بالقوة، فإذا فارقت أجسادها كانت ملائكة بالفعل، كما بيَّنا في رسالة صفات المؤمنين المحققين ورسالة البعث، كذلك النفس المتجسدة الشريرة هي شياطين بالقوة، فإذا فارقت أجسادها كانت شياطين بالفعل، فهذه النفوس الشيطانية بالفعل توسوس للنفوس الشيطانية بالقوة لتخرجها إلى الفعل".

وجب التنبيه أولا إلى معنى مصطلحي القوة والفعل، فالقوة عند الفلاسفة هي المؤثر القبلي أي قبل وجود الخلق،  والفعل هو الحاصل الذي حصل تحت تأثير القوة؛ ومعنى هذا أن النفوس المتجسدة هي تحت تأثير طبيعتها فإن كانت ملائكية فهي في الجوهر ملائكة وإذا فارقت أجسادها انتقلت إلى الدار الآخرة حيث البعد الأعلى، ولم تعد بحاجة إلى الأجساد كونها أصبحت ملائكة بالفعل؛ أي أن تلك الطبيعية الملائكية تجلت بأفعال ملائكية مباشرة في البعد الأعلى فصارت ملائكية بالقوة والفعل أي شكلا مضمونا، أما في هذه الدار فالنفوس المتجسدة هي ملائكة بالطبيعة والجوهر وإنما تتجلى أفعالها في أفعال بشرية وظهور بشري، والملائكة في البعد الأعلى يقومون بنصح وإرشاد ودعم الملائكية المتجسدين هنا.

وهناك أنفس متجسدة شريرة هي بطبيعتها شيطانية، أي شياطين بالقوة فإذا فارقت أجسادها كانت شياطين بالفعل  في البعد الأدنى مظهرا ومضمون، وهذه النفوس التي الآن في الجحيم تتعذب تتواصل مع النفوس الشيطانية التي مازالت هنا فتؤثر عليها كي تأتي بها وتسحبها معها إلى الجحيم.

وكل مريد للجسد وقابع تحت سيطرته هو في الحقيقة قابع تحت تأثير القوى الشيطانية التي لا تريد منه أن يرتقي إلى الملكوت، لأن الجسد يعبر عن الوضع المتدني للوعي أو الوعي المتجسد المتدني فالذي يحتكم إلى الجسد فهو إن صح التعبير يحتكم إلى نقص الوعي، والذي يحتكم إلى طبيعته الروحية الملكوتية فهو يحتكم إلى الجوهر الذي يوحد كل شيء فيرتقي ويرتفع.

- كيف يحصل الجزاء بالنعيم والعذاب:

 هناك ثنائية في طبيعة النفوس فنجد من في طبيعته ملكوتية ومن في طبيعته شيطنة، وبعد فراق الجسد الذي هو تجربة واختبار كل يذهب إلى حيث طبيعته أو قوته؛ فإذا كانت قوته ملائكية يصعد وتفتح له أبواب السماء ومن كانت قوته شيطانية يهوي إلى البعد الأدنى الذي هو الجحيم ونرى هذه الطبائع في الخلق ، هناك من يتصرف بأفعال بشرية وراءها قوة ملائكية وهناك من بتصرف بأفعال بشرية وراءها قوة شيطانية، فالقوة هي المؤثر السابق لخلق أو فعل شيء ما. 

عندما تفارق النفوس الملكوتية الجسد تفرح وتتنعم بهذه المفارقة التي حررتها لأن الجسد بمثابة السجن لها، وتعتبر هذا التجسد مجرد وسيلة لإنقاذ الناس ومعاونتهم، وهي لا تستأنس بالأجساد بل طبيعتها تستأنس بالملائكة والنور والجانب العلوي من الوجود، وتحملت هذه التجرببة بغية خدمة الآخرين وترقيتهم، والنفوس الشريرة عندما تفترق عن الجسد تتعذب والسبب أنها آنسته ولا تريد مفارقته وهذا هو مفهوم الجحيم.

🔹( الرسالة الثالثة عشرة من الجسمانيات الطبيعيات في كيفية نشوء الأنفس الجزئية في الأجساد البشرية الطبيعية).

تحوي هذه الرسالة حكمة كبيرة وتقدم تفسيرا لكيفية نشوء الأنفس الجزئية في الأجساد الطبيعية البشرية، قبل أن نخوض في شرح هذه الرسالة علينا أن نبين معاني بعض المصطلحات، فقد وقع البعض في خلط مصطلحي بين النفس والروح عند توظيف إخوان الصفا لها في رسائلهم  فعندما يتكلمون عن الروح ويشيرون إلى ضعفها وقوتها، وتجربتها لكل الثنائيات فهم يقصدون الروح الجزئية باعتبارها نفسا قبل أن ترتقي إلى مصافي الروح كجوهر سماوي، جاء في الرسالة الرابعة عشرة من الجسمانيات الطبيعيات "ثم اعلم أن الموجودات كلها نوعان كلية وجزئية فالموجودات الكلية الدائمة الوجود والبقاء، لأنها ابتدأت في الترتيب من أشرفها وأتمها إلى أدونها وأنقصها كما بينا في رسالة المبادئ العقلية. والموجودات الجزويات دائمة في الكون، متوجهة نحو التمام، لأنها تبتدئ بالكون من أنقص الوجود متوجهة إلى أتم الوجود، ومن أدون الأحوال مترقية إلى أشرفها وأتمها. ثم اعلم أن الإنسان هو من الأمور الجزوية، وهو مجموع من جوهرين: أحدهما هذا الجسد الجسماني، والآخر هو النفس الروحانية".

أما في العلاقة بين الجسد والنفس فيقولون: " اعلم أن هذا الجسد لهذه النفس هو بمنزلة دار لساكنها بنيت وأحكم بناؤها، وقسمت بيوتها، وملئت خزائنها، وسقفت سطوحها، وفتحت أبوابها، وعلقت ستورها، وأعد فيها كل ما ما يحتاج إليه صاحب المنزل من الفرش والأواني والأثاث والمتاع على أتم ما يكون وأكمله وأتقنه"؛  الجسد عندهم بمنزلة الدار والوعاء للنفس، وما النفس إلا ساكن لهذه الدار، هذه النفس ثابتة والدور متغيرة،  ولما كان العالم بمثابة إنسان كبير والإنسان هو عالم صغير فما وجد في العالم الكبير وجد في العالم الصغير، فإن الكون -أو الإنسان الكامل في اصطلاح ابن عربي وغيره من الحكماء- هو الوعاء الجامع الذي يحوي الأنفس والأجساد الجزئية المتمثلة فينا.

- كيفية نشوء الأنفس الجزئية: 

لشرح هذه الفكرة مثل إخوان الصفا:  "الإنسان في الدنيا بالجنين في بطن أمه، باعتبار هذه الدنيا الجسم والوعاء المطلق الذي يحوز الخلائق أجمعين لشبهه بالرحم الذي يعي ويحصر الجنين حتى يكتمل ويولد، ولما كان استقرار الجنين في الرحم بغية ولادته وليس الخلود داخله، فإن معناه يكمن فيما بعد ولادته، وكذلك غرض وجود الإنسان في هذا التردد الدنيوي هو اكتمال نموه واختبار الروح والجوهر بحواسه المحدودة حتى يلد كاملا في الدار الآخرة، حيث ورد في الرسالة : " اعلم أن هذا الجسد لهذه الأنفس في المثال بمنزلة الرحم للجنين، وذلك أن الجنين إذا استتمت في الرحم بنيته، وتكملت هناك صورته، خرج إلى هذه الدار تام الخلقة، سالم الحواس، وانتفع بالحياة فيها، وتمتع بنعيمها إلى وقت معلوم، فهكذا يكون حال الأنفس في الدار الآخرة، وذلك أن الأنفس الجزئية، إذا استتمت ذواتها بالخروج من القوة إلى حيز الفعل بما تستفيده من العلوم والمعارف بطريق الحواس، واستكملت صورتها بما تكتسب من الفضائل بطريق المعقولات والتجارب والرياضات وما يدبر في هذه الدار من السياسات...كل ذلك بتوسط هذا الجسد المؤلف من الدم واللحم، ثم إن فارقته على بصيرة منها ومن أمرها، وقد عرفت جوهرها وتصورت ذاتها وتبينت أمر عالمها ومبدئها ومعادها كارهة للكون مع الجسد، بقيت عند ذلك مفارقة للهيولى، واستقلت بذاتها واستغنت بجوهرها عن التعلق بالأجسام، فعند ذلك ترتقي إلى الملأ الأعلى وتدخل في زمرة الملائكة، وتشاهد تلك الأمور الروحانية وتعاين تلك الصور النورانية التي لا تدركها بالحواس الخمس، ولا تتصور في الأوهام البشرية، كما ذكر هذا في الرموزات النبوية أن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من النعيم واللذة والسرور والفرح والروح والريحان".

تبين هذه الفقرة ما وضحناه أعلاه فنحن في هذه الدار الدنيا بمثابة الجنين في رحم أمه، نحن هنا في رحمة الله متصلين به كما يتصل الجنين بالحبل السري الذي يعطيه المدد لينمو ويكتمل ويولد، والموت هنا هو الولادة في دار السلام أو الولادة في دار أوقع وأكمل وأوسع...وبالتالي فالدار الآخرة بالنسبة لنا هي العالم الذي تعيش فيه الأم بالنسبة للجنين، وهناك أيضا من يقول أننا موجودون في خيال الله وخيال الله حقيقة، فالخيال كما بينا في مقالات سابقة هو الخلة والفراغ بين شيئين والجنين يكون في هذه الخلة التي نعبر عنها بالرحم وهذه الفكرة هي نفسها فكرة كوننا في خيال الله، والهدف من هذه المسيرة في التجربة الأرضية هي الرجوع إلى دار السلام كاملا ولا يكون كمالك إلا بمعرفة جوهرك وتصور ذاتك تاركا للكون والجسد الذي يعتبر واسطة فقط؛ والفكرة هنا أن الأنفس الناقصة ستحتاج إلى الجسد لأنها لا تفهم تعاملات الروح، لهذا فالإنسان مجبور على الجسد في هذا البعد ومن دونه لا يستطيع الكينونة، أما الذي بالعلوم والمعارف يرقي نفسه إلى الروح فيستطيع التعامل مع بعد أعلى، فهو لم يعد في حاجة إلى الجسد لأن الجسد بالنسبة له كالرحم بالنسبة للجنين وجد فقط إلى زمن معلوم كي يولد في أحسن تقويم، فمن أدرك جوهره في هذه الحياة فقد أدرك كماله فيها، وبالتالي يولد في الدار الآخرة بشكل أتم فينتفع بنعيمها ويتمتع بها.

أما الذين لم يختبروا الجوهر في الدنيا حين ولادتهم في الدار الآخرة يولدون كما يلد الطفل المعاق الذي لم يكتمل نموه في الرحم، يقول تعالى في كتابه: { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125)قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ (126) وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ ۚ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ (127)} [سورة طه 125-127]، ذلك أنه أعرض عن الآيات والبراهين التي أتته وتصرف كالأعمى، فالذي يتصرف بالعمي مع الروح والبكم مع الحق يحشر في الدار الآخرة على تلك الحال التي كان فيها، لأنه أشاح بنظره عن الحق الذي كان يأتيه في الدنيا ولم يسعى نحو كماله، فكانت خلقته الآخروية خلقة ناقصة  كالجنين الذي لم يكتمل نموه في بطن أمه.

أما من اختبر الروح بحواسه المحدودة يولد في الدار الآخرة مستغنيا عن الجسد لأنه لم يعد في حاجته، عكس الأنفس غير النامية فهي أنفس منغمسة في الجسد ترى ما هو ضمنه وتحتكم له، والأنفس المكتملة تحتكم إلى الروح لأنها اختبرتها، وعند ولادتها في البعد الأعلى تولد بشكل أتم وتلتحق بزمرة الملائكة والملأ الأعلى لأنها أصبحت نورانية روحانية لا تحتاج إلى التجسيد، لقيامها بتوسيع مداركها في الدار الدنيا.

-  الغفلة عقبة الوصول إلى الجوهر:

" الأنفس الجزئية تتصور بالعلوم جواهرها، وتنمو بالحكمة ذواتها، وتضيء بالمعارف صورها، وتقوى بالرياضيات فكرها، وتنير بالآداب خواطرها، وتتسع لقبول الصور المجردة الروحانية عقولها، وتعلو إلى اشتياق الأمور الخالدة همتها، ويشتد على البلوغ إلى أقصى مد غاياتها عزماتها من الترقي في المراتب العالية بالنظر في العلوم الإلهية، والسلوك في المذاهب الروحانية الربانية، والتعبد في الأمور الشريفة..." 

لكي تصل إلى جوهرك وتبلغ كمالك وجب عليك تحصيل العلم والحكمة، أنت في هذه الحياة كمثل الجنين في بطن أمه (أي الكون والتي في اصطلاحنا نعبر عنها بمريم)، فإما أن تولد مسيحا -إن أخذنا الأمر من جانبه المثالي- أو تكون ولادتك ناقصة،  فالحكمة هي من تغذي ذاتك والمعارف هي من تصور صورتك الآخروية، فأنت وُجدت في هذه الدار كي تعود من القشور إلى الجوهر فإن عدت له تحررت من القشور ولم تعد في حاجة للجسد، وحلقت مع الملأ الاعلى الذي هم الملائكة المقربون.

ومثال الغفلة في هذا العالم كمثال الجنين الذي يعتقد أنه موجود أبديا في رحم أمه ولن يخرج منه، فهناك من هو غافل ويظن أن هذه الحياة الدنيا ستستمر إلى الأبد ولا نهاية لها، فيأتي الموت ليخرجه عن غفلته، فالموت ماهو إلا ولادة لكيان أكبر هذا الكيان يحدد مصيره بما تفعله أنت الآن كما يتحدد مصير الجنين بما تفعله أمه، فإن إن كان الجنين معاقا أو ناقصا بشكل ما ولد ناقصا واختبر الحياة بالنقص؛  الإنسان قبل انتقاله إلى عالم الروح والملكوت وجب عليه أن يتعلم الملكوت في البعد الأدنى وفيه يطهر بصيرته ويقوي جانبه الروحي لكي يولد في الجانب الملكوتي ولادة سليمة.

🔹( الرسالة الرابعة عشرة من الجسمانيات الطبيعيات في بيان طاقة الإنسان في المعارف، وإلى أي حد هو ومبلغه من العلوم، وإلى أي غاية ينتهي، وأي شرف يرتقي)

- في كيفية إحياء الروح الشريفة:

أقصى ما يمكن الإنسان الوصول إليه والشرف الذي يمكنه حيازته هو الوصول إلى إحياء الروح الشريفة فيه بحيث يروض الجسد نهائيا، ويصبح الجسد المظلم الترابي الساكن طوعا لتلك الروح، فلا ينام ولا يشرب ولا يأكل إلا بأمر الروح، فيخيب ظن إبليس الذي احتكم إلى المادة في تفضيل خلقته على خلقة الإنسان، حيث أن إبليس من حيث الخلقة المادية أفضل منه كونه مخلوق من نار وهي جسم مضيء متحرك يطلب العلو، والتراب جسم ساكن مظلم يطلب الأسفل، وكان هذا قياسا خاطئا منه حين رفضه للسجود، فالسجود لم يكن للجسد الترابي بل للروح الشريفة التي نفخت في الإنسان، أما الإنسان الذي يتحكم فيه الجسد فهو إنسان ظلامي سفلي وهو من صدق ظن إبليس فيه، لهذا وجب على الإنسان إحياء الروح التي من أجلها سجد الملكوت للإنسان أو آدم الملكوتي.

ويتم إحياء هذه الروح أولا بالتأمل والتدبر لأن هذا التأمل يفتح في الجسد الذي يعتبر سجنا نافذة إلى الملكوت والعالم الإلهي، أما من ترك التأمل فهو في غفلة مسجون في ظلام الجسد، وتكمن الحكمة في التأمل والتدبر في كونها إن صح التعبير حاسة سادسة أو مكنة روحية غير حسية، أو بصيرة بها ترى ما وراء هذا الجسم المطلق الذي هو الكون الذي يحصرنا كما يحصر رحم الأم الجنين، فالجنين لا يدري ما الذي يحصل في الخارج إلا بدرجات صوتية منخفضة ولا يبصر، كذلك الإنسان يجب أن يطور حاسة السمع الداخلي التي هي بصيرة الوحي عند الإنسان، فيستطيع التواصل مع العالم الملكوتي اعتمادا على هذا الوحي السمعي، وتطويره لهذه الحاسة يكوّن قناة تواصل مع صف الملائكة والله عموما، والإنسان يجب أن يقف وقفة التأمل ويتفكر ويتدبر ويحاول أن يسمع ما هو خارج حدود السمع المادي ويطور ملكاته وحواسه الروحية،  فما يوجد في الأعلى يوجد في الأسفل سمعا كان أو بصرا جميع الحواس توجد في الأعلى لكن بشكل ملكوتي جوهري ، عليه تطوير هذه الحواس كي يستطيع الاتصال بالملكوت، والملكوت غير محصور في هذا الجسد المطلق الذي هو الكون، فالملكوت بالنسبة لنا هو كالعالم بالنسبة للجنين فنحن أجنة في داخل هذا الجسد.

كي يحيى الإنسان بروحه الشريفة عليه تطوير أدوات تلك الروح،  وكما للجسد المادي حواسا وأمورا يقوم بها كالأكل والشرب والنوم... فللروح أمورا تقوم بها كالعلم والحكمة والحب والجمال والأسماء كلها، هذه الأمور تحيي الروح، وكما يحيي الماء المادي الجسد يحيي الماء المعنوي الروح؛ والماء المعنوي هو النون الأزلية أو الطاقة الكونية التي هي الرحمة فيجب أن تتغذى الروح كما يتغذى الجسد.


إرسال تعليق

0تعليقات

إرسال تعليق (0)