صفاء النفس المطمئنة والسبيل إلى الخروج من الليلة المظلمة للروح، الوصول إلى السمو الحقيقي
الليلة المظلمة للروح ومعراج النفس:
تبدأ الليلة المظلمة للروح بالدخول إلى مرتبة العقل، فيقوم العقل بعملية تجريدك وإدخالك إلى دائرة الحرام فتحرم على نفسك كل الخبائث والشرور، وهنا يكون العقل في صراع مع النفس الأمارة بالسوء التي لا تشبع رغباتها مهما لُبِّيت ولا تصل إلى الاكتفاء والرضاية أبدا، فيعمل العقل على حبسها ضمن دائرته في عملية الإنزواء لأنها تستحق السجن، فعندما تعترف أنك ناقص وبحاجة إلى النور تفتح لك نافذة تصلك به، وهذه النافذة تتفاعل مع صوت وجدانك الذي يعبر عن الصلة الدفينة فيك بالنور، وبهذا تدخل مرتبة القلب الذي يمثل سبيلك للخروج من تلك الليلة المظلمة، ترافق هذه المرحلة النفس اللوامة فهي مترددة بين السجن والحرية بين الظلام والنور فيكون النور أو النافذة التي فتحت لها مصدر لاطمئنانها من التردد الذي دخلت فيه، فهذه النفس تستحق نافذة تصلها بالنور، وعندما تطمئن له تصل إلى مرحلة الوحي الروحي حيث أنها اتبعت صوت الوجدان فاستيقظت الروح وحلقت، وباستيقاظ الروح تطمئن النفس وتصبح نفسا مطمئنة وبعد أن كانت النفس اللوامة مترددة بين الظلام والنور الآن اطمئنت إلى النور وللمسار الروحي الذي ستخوض فيه، وتخلت عن التردد والخوف الذي كان مصاحبا للظلام.
يظن الكثيرون أن النتائج هي الأهم وهذا هو منبع الشر لأن هذه الفكرة مخالفة تماما للروح التي تحمل معنى الرحلة والفسحة والمسار، وبهذا تكون الرحلة أهم من تحصيل النتيجة، النفس الأمارة بالسوء تكون في بحث مستمر عن النتائج وتحصيل الثمار الجاهزة لظنها أن السعادة تقبع هناك، فتكون ساعية نحو النتائج وتحصيل لذاتها اللحظية فتبدأ في الانتقال بين نتيجة وأخرى دون الوصول إلى مبتغاها وتحقيق رضاها مهما حصلت من نتائج، لهذا تحبس حتى تحل محلها النفس اللوامة المتعلقة بمرتبة القلب، التي تدرك أن الرحلة والوصول إلى السعادة لا تكون بتحصيل النتائج والوصول إليها بسرعة بل تكون من باب الذوق والتأني أثناء اتخاذ مسارها، فتعلم أن هناك هدفا طيبا لك أي هدفا تنتمي إليه وينتمي لك عكس الخبيث، فتدرك قيمة الرحلة وتخوض مراحلها بتذوق لكل محطات حياتك.
التوازن الروحي بين العقل والقلب:
الروح تجمع بين الظلام والنور لأنها عقل وقلب، فالظلام يمثل نظرة العقل إلى العالم والنور يمثل نظرة القلب إلى العالم، أما الروح فهي التي تجمع وتوازن بين النظرتين في انسجام وتكامل حتى تستطيع التحليق والحصول على رؤية كاملة، إن المتخبط في الخبائث غارق في الظلام لا يستطيع رؤية النور ويتحجج بظروفه التي تمنعه من عيش حياته كما يجب باعتباره مستخلفا في هذه الأرض، هذه الظروف ما هي إلا سجون ومصفوفات تمنعه من الوصول إلى حقيقته شأنها شأن جسده ومجتمعه ومعتقداته، فالتسليم للظروف هو تسليم رقبتك للعبودية، والعبد مهما عاش وأخذ أنفاسا في حياته لا يكتفي لأنه ليس حر وعاش وفق حياة سيده، عكس الحر فيكفيه نفس واحد يحقق فيه حريته، فكيف يختلف الإنسان عن الحيوان إن كانت الظروف هي من تسيره وتخضعه، الذي عرف الإله بحق وصل إلى تلك المعاني والقيم الإنسانية وانتمى لها فوصل نفسه ورحمها، ومُنح حرية الإرادة والقدرة على الخروج من كل هذه الظروف والمصفوفات والعيش بكل إمكانياته، لأنه علم أن به روح تميزه عن باقي المخلوقات وهي التي تمكنه من خوض رحلته نحو التحرر من كل تلك القيود التي لا تمثله، فأنت لست ما أُلبس لك في الأرض بل ما ألبسك أياه الإله في الأعلى.
الإنسانية ليست مقتصرة على البشر فقط بل هي موجودة بدرجات مختلفة في الحيوان والنبات فهي معلم كوني وجودي، والابتعاد عن هذه المعاني هو ما يجعلك تتخبط في الظلام والمعاناة والذي يعيش هكذا فهو مقهور ويستحق الرحمة والصلة، إلا إن كان كافرا جاحدا بهذه المعاني فهو يقطع نفسه عن الرحمة الإلهية، فمشكلة الفرد أنه يقطع نفسه عن الخارج ويظن أن كل شيء منفصل عنه فيؤذي غيره ويسب ويقوم بأفعال مختلفة للآخر في ظن منه أنه مفصول عنه، وفي الحقيقة أن كل ما فعله قد فعله لنفسه لأنه يمس الرابطة بينه وبين غيره فتعود له أفعاله كما هي.
الكثيرون يريدون الحصول على الحقائق والأسرار الإلهية دون الخوض في الرحلة وهذا غير ممكن فحتى لو أخبرته عنها وشرحتها له لن يمس معناها ولن يدركه، لأنه لم يخض تلك الرحلة ولم يعاني من أجل حصوله على تلك المعاني الإلهية التي تتطلب الإخلاص في طلبها فهناك من يخوض الرحلة ولا يحصل على شيء، كما أن الرحلة متعلقة بالذوق فكل كيف يرى ويدرك تلك المعاني داخله ولا يمكنك أن تجعل شخصا يرى ما تراه لأن هذا أمر خاص، الباحث عن جمع النتائج سيصاب بخيبة في آخر طريقه لأنه لن يجد شيئا، في حين الذي خاض الرحلة وعرف نفسه وقدره سيصل في الأخير إلى شعور لا يمكن وصفه وعمق كبير في الروح وذلك هو النعيم.
لو اطلع الإنسان على ما قدر لروحه ونظر إلى حياته لوجد أنه يقاوم القدر الإلهي وهذا هو العصيان، فالذي لا يريد خوض الرحلة ومعاناتها سيبحث عن النتائج فقط ولا يرغب في التذوق ويرفض المعاناة ورفض المعاناة هو الشر، ولا توجد معاناة في الوجود تستطيع الوقوف أمام إرادة الإنسان فمن يرفض المعاناة فهو يرفض العمق والمعاني ويكتفي بالسطح والقشور، فإما أن تمشي مع الإرادة الإلهية أو تخالفها فتبقى في تخبط دائم لأنك مصر على الاستمرار في الخطأ والنقص، وإن كانت إرادتك موافقة للخير ستخرج من هذا التخبط وترى أنك تستطيع تحقيق كل شيء وتستحق كل شيء في هذا الوجود.
ماذا يقول الوجدان لإخراجك من الليلة المظلمة:
الوجدان يدعوك إلى الحرية واتباع النور والعودة إلى حقيقتك وترك كل زيف لا يمثلك، يدعوك للاتصال بذاتك الحقيقية والخروج عن الوهم بتذكر حقيقتك التي تشوهت في هذه الأرض، هناك الكثيرون ممن يسمعون نداء الروح ويتجاهلونه ويبررون أفعالهم بظروفهم وعدم قدرتهم على تلبية النداء مع العلم أن الروح تمنحك القدرة والرغبة وكل الأسماء للخوض في الرحلة، والحقيقة أن الذين يتهربون من نداء الروح يخافون من الحرية فلو منحتهم حرية الإرادة لطلبوا منك أن تقيدهم وتأخذ بزمام أمورهم، وهؤلاء لن يكتفوا من الحياة ولو عاشوا مئات السنين لأنهم عباد غير محررين لا يعيشون حياتهم بل يعيشون على حياة الآخرين وأحلامهم وأفكارهم ولن يصلوا الى الرضاية أبدا.
والحر هو من يدرك أن الأسماء الإلهية كلها فيه لأنه تذوق من نور الألوهية فأدرك العشق الحقيقي وعلم أن المعاني في داخله ولو لم يجدها في الخارج فيسكن لهذه الحقيقة فمن تذوق من نهر القداسة خرج عن حكم الزمن وظروفه، وأنى لشخص كهذا أن يخاف في حياته ويرفض الحرية لأنه أصبح بجوار القداسة والنور واتصل بالعزة، والعزة في جوهرها تعني الرفعة والتفرد فمن اتصل بها لن يدنسه أو يصله شيء من ظلام أو خوف أو حزن لأنه معزز محاط بالنور فكيف تصل هذه المشاعر السلبية لدار النور والسلام، يقول تعالى: ﴿... لَا تَخَفۡ إِنِّی لَا یَخَافُ لَدَیَّ ٱلۡمُرۡسَلُونَ )10)﴾ [ سورة النمل من الآية 10]، ﴿... یَـٰمُوسَىٰۤ أَقۡبِلۡ وَلَا تَخَفۡۖ إِنَّكَ مِنَ ٱلۡـَٔامِنِینَ (31)﴾ [القصص الآية 31]، فأقبل نحو حقيقتك ولا تخف من مساس الجوهر وكل المعاني، فإن كانت فيك دعوة ورغبة لممارسة ما يتوافق مع روحك فاتبعها ولا تترد، لأنك لو وفيت بوعد الروح لن تندم أبدا ولو كررت الفعل آلاف المرات كونك اتخذت طريق الحق والصواب وما يتوافق مع الروح.