الليلة المظلمة للروح أسبابها و ماذا بعدها:
الخوف ومرتبة العقل:
في بداية الرحلة الروحية وجب على الإنسان الانزواء بذاته عن الخارج، وهذا الانزواء ليس بالضرورة ظاهري بل الأصل فيه أن يكون باطني فيفصل نفسه عن كل شيء خارج عنه، هذه العملية تكون في مرتبة العقل؛ حيث أن العقل يقوم بعملية الفصل والتجريد والتقشير فيجردك عن كل شيء وحتى عن العالم في محاولة منه لحمايتك وإبعادك عن الخبائث والشرور، فهو وكيل النفس الأمارة بالسوء والرادع لها وقد يصل الأمر إلى تحريم الطيبات على نفسك فترى أن كل شيء في الحياة عبث فتزهد فيها، في هذه المرحلة وحين طغيان العقل يشعر الإنسان بعدم الانتماء والتجانس مع الخارج فيتسلل إليه شعور الخوف، والخوف عبارة عن تقلص وانحصار للنفس بفعل المؤثرات الخارجية التي تتعرض لها، وهذا التقلص يمتد تأثيره إلى التقليص من عمر الإنسان، فالإنسان الخائف أو الذي يكون عرضة للمشاعر السلبية لا يعيش كثيرا لأن هذه المشاعر تؤثر على جسمه وصحته، وتتمثل رسالة الخوف في إخبارك أن لا ذات لك فإما أن تعود لما انفصلت عنه وتجردت منه أو تموت وهذا من عمل المشاعر المترددة التي تحاول إرجاعك إلى العبثية و الضياع.
نتيجة للمشاعر السلبية التي نختبرها في مرتبة العقل، يدخل الفرد إلى ما يعرف بالليلة المظلمة للروح حيث تحيط به كل هذه المشاعر والمخاوف وتفصله عن الخارج، فيغرق في ظلامه وينقطع عنه النور والمدد الإلهي بسبب المخاوف ويفقد طاقته على المواجهة رغم استمرار العقل في المحاربة ولا خلاص له منها إلى باتباع الإرشاد القلبي.
الليلة المظلمة للروح والإرشاد القلبي:
تلك المخاوف والمشاعر السلبية الناتجة عن الانزواء والدخول في مرتبة العقل والانغماس فيه، تكون بمثابة جدار يحيط بك ويعزلك عن الخارج ويحرمك من رؤية النور ولا سبيل للخروج من هذا السجن إلا باتباع الإرشاد القلبي، فالاحتكام إلى القلب هنا يفتح لك نوافذ مطلة على الخير فيتسرب النور إلى داخلك حتى يُبدد كل الظلام وتُباد الأشباح أو المشاعر التي تسلبك فتدرك أن هناك خير ومعنى وجوهر قائم غير زائل.
لما كان العقل يعلمك الفصل والتجريد فالقلب يعلمك الربط والانتماء واختيار وانتقاء ما يليق بك (الاختيار من الخير والانتقاء منه النقاء) فتعلم حين تجريد كل تلك المشاعر أنها زائفة أما الحقيقية منها فهي مشاعر الحب والسلام والطمئنينة، وبالإرشاد القلبي تتعلم كيف تختبر هذه المشاعر وتبقى فيها، وإن وصلت إلى هذه المرحلة وكنت من الذين يمتلكون قلبا سليما أمكنك أن تعيش في سلام لأنك تعلمت بالعقل فصل الخبيث وتمييزه عن الطيب، وبالقلب اختيار الخير والعمل به فهُديت إلى سراط مستقيم، فمن علم الشر وامتنع عنه لم يظلم نفسه، ومن علم الخير وقام به أحسن إلى نفسه وهذا هو الفوز العظيم.
كثيرون هم من اختبروا الليلة المظلمة للروح لكن القليل منهم من خرج منها بمعنى وجوهر وحقيقة، فالذين يفشلون في الحصول على مرشد قلبي يبين لهم الطيبات يتعرضون لما يعرف بالانتكاسة؛ فبدل سيرهم في طريق المعراج يتقهقرون إلى مرتبة الحيوانية لفشلهم في محاربة ظلام الليلة المظلمة وعدم رؤية النور فيها.
مرتبة الروح والوحي الروحي:
خلال هذه الرحلة من المرتبة الحيوانية إلى مرتبة القلب يرى الإنسان تعدد العوالم واختلافها، ففي مرتبة الحيوانية واتباع النفس الأمارة بالسوء لا يدرك من العالم سوى الشرور، أما في مرتبة العقل فلا يرى شيئا حتى ينتقل إلى مرتبة القلب فينكشف له عالم الخيرات والأنوار.
إن الاعتماد على العقل وحده لا يكفي للاستمرار لهذا يتدخل القلب، لكن الافراط فيه أيضا يخل بالتوازن، فالإرشاد القلبي يفتح له نوافذ النور ويصله بالمدد الإلهي فيرى عالما مليئا بالخير فيعتمد على الخيرية وينفي الشرور والثنائية، كطائر جميل يمشي على الأرض في ظن منه أنه كما الحرية في السماء فهي منعكسة بتمامها على الأرض، فيتعرض إلى فخاخ ومكائد الزواحف والحيوانات فيصاب بالخيبات والخذلان واليأس، وهذه المشاعر ليست سلبية بالمطلق لأنها إرشاد قلبي هادف لتنبيهك إلى ضرورة مقابلة العقل بالقلب والإقرار بالثنائية، فتعلم أن التعامل مع الأمور لا يكون بالاحتكام إلى العقل وحده أو القلب وحده بل في إيجاد التوازن بينهما، وعند إدراكك لهذا تصل إلى مرتبة الروح.
فصل الأمر بين العقل والقلب يكون بالدخول في مرتبة الروح التي تجعلك ترى العالم من خلالهما، فالوحي الروحي يمكنك من إيجاد التوازن بين العقل والقلب وتوحيدهما، وهذا هو الكمال والجمال، وقد رمزنا للروح بطائر ذي جانحين الأول يمثل العقل والثاني يمثل القلب والروح هي ازدواجيتهما، فبعد مرورك بالمرتبتين العقلية والقلبية وتمكنك منهما تجد التناغم والانسجام في حركة الجناحين، وهو ما يمكن الطائر من التحليق بحرية في السماء، ومن وصل هذه المرحلة فقد بلغ مبلغه.