ماهية الروح والنفس
بينا في المقالات السابقة أن الروح هي ملكة التمييز بين الرموز والعلامات، هي ملكة لتقفي الآيات والبراهين، وبها كان الإنسان خليفة لله؛ لأن نفخة الروح أعطته خاصية تمييز العلامات وفهمها للعودة إلى الأصل، فالكون نتيجة لله ينسب للخالق وللحق وللعليم، وهذا لا يكون إلا بالروح لأنها قابلية للربط بين السبب والنتيحة وبين الخلقة والخالق، هي صلة ومدد ووسيلة لربط العبد بربه ومثلنا لذلك رمزيا بقمة الجبل التي تصل بين الأعلى والأسفل بين السماء والأرض (انظر مقال الجبل والطير)، من خلالها نتمكن من فهم الصلات والفواصل، التحكيم والتفصيل، فهي القابلية للربط والقطع، للفهم والفقه، لعلم أصل ما يجري وربطه بالأصل، لفهم القانون وفهم الآيات والامارات.
أما النفس فهي من الجذر اللغوي نفس وتنفس، وعملية أخذ الهواء واخراجه هي التنفس، والهواء و الهوية يشتركان في حروف الأصل ومنه الهوية من الهواء، وبين مصطلحي الهواء والنفس تجد حقيقة هويتك، فهويتك تأخذ من الهواء الذي تتنفسه، ومنه فنفسك هي هويتك؛ من معاني الهوية مجموعة الخصائص والصفات التي تجعل الشخص أو الشيء هو نفسه، وتميزه عن غيره، لهذا فعندما تعرّف عن هويتك فأنت تخبر عن نفسك، عندما تتنفس الهواء فأنت تعزز من نفسك، فتشعر بهوية وهذه هي النفس، وهي تقتطع من الهوية التي في الهواء فتشعر بهويتك أنت، وهذه النفس كالتنفس الذي تأخذه من النفس الكاملة التي هي الكون، ونفسك الجزئية هي النَّفَس الذي تأخذه من هذه النفس الكاملة، وحين الموت تنقطع نفسك عن النفس الكلية فيكون انفصال عن الهواء وهوية الحياة الدنيا.
النفس مؤشر لانبساط الشيء وانقباضه لتوسعه وتضيقه، النفس هي عملية للحياة والموت، هي تجربة للحياة والموت.
في الفرق بين الروح والنفس
-النفس تشترك فيها جملة المخلوقات، فللجماد نفس، وللنبات نفس، وللحيوان نفس وكذلك الإنسان ويوجد ما لانهاية من النفوس، كل شيء في هذا الكون يتنفس ﴿وَٱلصُّبۡحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)﴾ [التكوير 18]،الله لديه نفس وهي الكون أو النفس الكاملة، وهي خاصعة لقانون الرحمانية والثنائية والزوجية، هو خلقكم من نفس واحدة هي نفس الله ثم أتت الأنفس أزواجا، ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُوا۟ رَبَّكُمُ ٱلَّذِی خَلَقَكُم مِّن نَّفۡس وَ ٰحِدَة وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالا كَثِیرا وَنِسَاۤء وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ٱلَّذِی تَسَاۤءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَیۡكُمۡ رَقِیبا﴾ [النساء 1]، لكن ليس لكل شيء روح فالإنسان وحده من يتمتع بالروح التي وهبها الله له لأنها بوابة فهم السر الأخفى الذي لا يظهر في الكون فتظهر إلا رموزه وهو الله، السر هو الذي احتجب بهذا التجسيد وهذا التجسيد هو حجاب الله لذلك عند الموت يرفع عنك الحجاب ﴿لَّقَدۡ كُنتَ فِی غَفۡلَة مِّنۡ هَـٰذَا فَكَشَفۡنَا عَنكَ غِطَاۤءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلۡیَوۡمَ حَدِید﴾ [ق 22]؛ يعني يذهب التجسيد عندما ترفع و تدخل في عالم المس والصلة التامة مع عالم السر فبصرك يصبح حادا لا يخطئ.
- من الخصائص الأساسية للنفس أنها زوجية ﴿وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتۡ (7)﴾ [التكوير 7] لأن كل نفس عندما تتنفس تلقي نفسا حتما سيأخذه أحد آخر له نفس، لهذا فالنفس ذات طابع ثنائي أُخذت من النفس الكلية، ويمكن ملاحظة ذلك من عملية التنفس فهي شهيق وزفير، أخذ ورد، تمدد وتقلص، انقباض وانبساط، فالتنفس عبارة عن لذة وألم، رغبة ورهبة، ومثال ذلك عندما تشتهي وترغب وتحب وتتعلق وترتبط فأنت تُدخل النفس إليك فإدخالك للنفس هو عملية ارتباط وتعلق واشتهاء ورغبة فتزيد هويتك، أما عندما تتنهد أو تتحسر تخرج نفسك، فتقل هويتك لأنك حين تتألم تترك الهواء أو النفس وتخرج للخارج، ولاحظها في نفسك؛ فالإنسان عندما يرغب في شيء يريد أن يتنفسه ويدخله إلى داخله، وعندما يتحسر على شيء فإنه يتنهد ويخرجه، كأن الشيء الذي لم يحوزه وفاته خرج من داخله، وفي وصف بعض العلل النفسية، نجد كأنما الشخص سحبت نفسه من جسده من فعل الصدمة، كأنها أخرجت منه ولا تستطيع العودة إليه، لهذا تجده مصدوم وفارغ توقف ألمه ولذته جراء تلك الصدمة، أصبح كأنه لا يتنفس، بينما الروح أحادية لا تؤمن بالزوجية لأنها أُخذت من الله وترجعك إليه، وليس هناك وجود لتوأم الروح لأن فيه ثنائية.
- نحن أنفس ندرك الصواب والخطأ لأن النفس لها علاقة دائما بالزوجية والرحمانية: البسط/الانقباض، الصلة /القطع، بينما الروح أحادية، وعالم الروح لا تشويه ولا خطأ فيه كل شيء مثالي وواحد كل شيء موصول ببعضه البعض، عالم المثل والمثال.
- الروح بوابة لغير المحسوس، هي مدد خارج عن الحواس، تتصل بها بباب الفهم والإدراك والفقه والعقل والبصيرة الحقيقية لا بالحواس(انظر مقال البصيرة السامية الحقيقية)، بينما النفس متعلقة بالحواس وتتفاعل مع المحسوسات.
-الروح تقودنا إلى الحق وفق صراط مستقيم واحد، بينما النفس فهي درجات، فالنفس الأمارة بالسوء وهي أدنى مراتب النفس الإنسانية توازي المرتبة الحيوانية، تأمرك بالسوء وكل علاماتها وأماراتها سوء، لم تذق ولم تتصل بعالم الأرواح، وهناك النفس اللوامة والنفس المطمئنة، والنفس الراضية و غيرها من الأنفس الأخرى
هوية الإنسان بين النفس والروح
بعد أن حددنا ماهية النفس والروح وبينا الفرق بينهما يتضح لنا أن الإنسان هو نفس لا روح، و الذين يعرفون أنفسهم بأنهم أرواح فهم على خطأ، الروح أحادية من الله وهي مثالية لا مجال فيها للثنائية، هي ملكة مجردة لتقفي العلامات الإلهية في الكون للعودة إلى الله وتوحيده، الروح لا تموت ولا تخطئ ولا تحزن ولا تفرح هي مجرد عن الوجود كله كما قلنا سابقا لأنها من الله وهبة منه للإنسان، بينما نفس الإنسان تخطئ وتصيب، تفرح وتحزن، تتلذذ وتتألم فكيف يمكن أن يُنسب هذا للروح، بل هذه الثنائيات والأحاسيس راجعة لنفسية الإنسان، وفي الكتاب النفس دائما مربوطة بالهوى، والروح مرتبطة بالحق والحقيقة فقط ﴿سَنُرِیهِمۡ ءَایَـٰتِنَا فِی ٱلۡـَٔافَاقِ وَفِیۤ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ أَوَلَمۡ یَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡء شَهِیدٌ﴾ [فصلت 53] كل شيء لديك آيته في نفسك وآية ذلك أنك تستشق الهواء وتطلقه، تتنفس فتقبض وتبسط ونفسيا تنبسط وتحزن، فبأخذ الهواء والتنفس فأنت تأخذ هوية لك من الهوية والنفس الكلية، فهناك نفس حيوانية غارقة في الشهوات والملذات متمسكة بالأرض لا ترتفع منقطعة عن الروح لا تليق بمقام الاستخلاف، فهل يمكن أن تكون الروح هكذا! الروح أعلى من النفس تريد أن توحد النفوس وتسوقها إلى الواحد من خلال اقتفاء الرموز والاشارات و تمكن الإنسان من فهم اللامحسوس، حتى لا يقع في فخ السامري الذي صدق بالملموس فقط وبقي داخل العجلة المغلقة، عكس موسى الذي فُتح له باب من هذا التفكير الضيق المحسوس فتمكن من فهم وإدراك أفعال الله وأسمائه وأسراره ﴿إِنَّهُۥ لَقُرۡءَان كَرِیم (77) فِی كِتَـٰب مَّكۡنُون (78) لَّا یَمَسُّهُۥۤ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ (79)﴾ [الواقعة 77-79]، فالنفس لها حياة تخوضها ، لهذا على الإنسان أن يؤدي أمانته ويتصل بالروح وبالواحد، ليفتح بابا في هذا العالم الذي يبدو مغلقا حتى لا يفتتن به كما افتتن السامري(راجع مقال السامري وعين الدجال) فظن أنه كل شيء ولا يوجد بعده أبد، والذي يمس الروح يفتح الله له باب السر إلى وجوده غير المكون إلى عالم الأسرار والمثال إلى عالم الروح.
الفجور والتقوى في النفس الإنسانية
الإنسان متشبث بهويته بنفسه وهواه، يعزز نفسه وهويته ويصر على ذلك حتى يغتر ويتكبر، والغرور هو أن تأخذ النفس اشتهاء ورغبة فيزداد حجمك كالبالون، ففي اللغة الغرور يعني ازدياد الحجم بالهوية، والنفس المغروة هي التي تريد أن تأخذ الأنفاس باستمرار فتكون في حالة دائمة من الاشتهاء والرغبة، ومن كان هكذا فقد اتخذ الهه هواه، فهوى وسقط ونزل﴿أَفَرَءَیۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡم وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَـٰوَة فَمَن یَهۡدِیهِ مِنۢ بَعۡدِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الجاثية 23] على عكس من اتبع الروح، لأن الروح مرتفعة تتنزل بحكمة ولا تهوي تتنزل بأمر وعلامة، والنفس يجب أن تتسامى وتتزكى لتلتقي بالروح فيكتمل التنزيل والتأويل وتفهم تلك العلامات، ويفجر الإنسان عندما يصر على نفسه وهويته باعتبارها هي الحق فيخرج عن الرحمة الإلهية، وما أبعد هذا الهوى عن الروح التي هي الحق ﴿وَنَفۡس وَمَا سَوَّىٰهَا(7) فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا (8)﴾ [الشمس 7-8].
الفجور هو الذي يجعل الإنسان لا يأبه بالهوية الحقيقية وبالله، هو محاولة للخروج من رحمة الله وأنك تستطيع العيش كإبليس لما قال أنا خير منه عزز أنا الهوية، وقايض أناه المغرورة برحمة الله، الأنا المغروة تظن أنها تستطيع العيش دون رحمة الله وتنزل في الهاوية تكبرا حتى لا تصغر أمام رحمة الله وهذا هو الفرق بين إبليس وآدم .. أما آدم وزوجه فاعترفا بذنبهما وطلبا المغفرة والرحمة﴿قَالَا رَبَّنَا ظَلَمۡنَاۤ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمۡ تَغۡفِرۡ لَنَا وَتَرۡحَمۡنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ﴾ [الأعراف 23] الله يحذركم نفسه فإن كانت لديك نفس فالله لديه نفس أكبر منك، والكافرون يحاربهم الله بنفسه والمؤمنون ينعمهم الله بروحه، فهم الذين اتقوا الجلال الإلهي أو البطش بلباسهم لباس التقوى، عندما يقول لك الله إحذر من قبضي أي اقبض نفسك لأنك إذا أطلقتها أطلقت عليك قبضي ومثال ذلك المغرور الذي يظن أنه لن يقبض فيقبض الله عليه بسهولة؛ بالمرض أو زوال النعمة أو زوال الأمن.
أما التقوى فهي الترفع عن السفليات عن الأمور التي قد تهوي بك وتبعدك عن الله ولا تدخلك قربه، الأمور التي تقربك من الله ترفعك من الدنيا إلى الآخرة هي تقوى ﴿تِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡـَٔاخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِینَ لَا یُرِیدُونَ عُلُوّا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَاداۚ وَٱلۡعَـٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِینَ﴾ [القصص 83]، الآخرة ليست للذين يريدون العلو في الحياة من يستعلي في الدنيا يهبط في الآخرة، والذي يحتكم بحكمة الروح ولا يأخد إلا ما يحتاج من الطيبات يجازى بكل شيء وتكون عاقبته حسنى، لهذا لا تدع نفسك مقبوضة ولا مبسوطة حتى تخرج من هذا الامتحان بعافية لا تقبضها حتى تخرجها من بسط الله ولا تبسطها حتى تدخلك في قبض الله وصولا إلى الموت في الأخير لأن الموت حق ومهما اغتررت وعززت نفسك سيقبض الله عليها حتى تنتهي بالموت.