الحب الإلهي حب مشروط
الله هو الخير والجمال والكمال وكل الصفات دالة عليه، وقد خلقنا على الفطرة لنكون في أحسن تقويم، الله يحبنا حبا حقيقيا ولا يريد منا شيئا لأن الغاية هي تطهيرنا ورفعنا عن الدنس للعودة إليه أبدا، لهذا وضع لنا شروطا لتحفظنا وتحفظ أنفسنا من الزوال والهلاك وكذلك من الانغماس في الظلمات والملذات، الشروط لازمة لأنها تحفظنا وتصوننا وتجعلنا سائرين إلى الخير، تجعلنا في الصواب تجعلنا في تمام الحياة والهداية، الخالق خلقنا بملايين الشروط كي نحيا، فكل شيء خلقه الله بقانون وشرط حتى يحافظ عليه يقول تعالى﴿إِنّا كُلَّ شَیءٍ خَلَقنَـٰهُ بِقَدَر﴾ [القمر 49]، لهذا فشرطية الله هي حب حقيقي لنا، فتجعلنا نتبع صراطه المستقيم باتباع أوامره ونواهيه والتحلي بأسمائه وصفاته لنكون في أفضل حال، ففي شروطه حفظ لنا من الشتات والخروج عن الفطرة وضمان لنا للوصول إلى الخير كله، ولتمثيل جدوى الشرطية في الحياة اليومية نأخذ قانون المرور، فيه علامات وإشارات توضح قوانين وشروطا تنظم حركة السير والمرور يجب علينا الإلتزام بها، أما هدفها فهو حفظ الأنفس والعيش في سلام، وكذلك حب الوالدين لنا فهو حب مشروط وحقيقي فيحافظون علينا ويهدوننا للحق والخير بالشرط، وحتى العقاب يعكس حبهم لنا لأن فيه تصويب وهداية وحفظ من الضياع، وكذلك القوانين والشروط التي سنها الله لنا.
لهذا الله يضع شروطا ولا يقبل الدنس والنقص والشرور وكلما ابتعد عنه وعن فطرته وقوانينه غرورا وتكبرا، ويقبل كل ما هو خير وجميل وطاهر ومتحلي بصفاته وأسمائه باتباعه لشروطه، لأنه يحبنا ويريد لنا التطهر والعودة إليه على أكمل وجه، يقول تعالى ﴿مَن كَانَ یُرِیدُ ٱلعِزَّةَ فَلِلّهِ ٱلعِزّةُ جَمِیعًا إِلَیهِ یَصعَدُ ٱلكَلِمُ ٱلطّیّبُ وَٱلعَمَلُ ٱلصّلِحُ یَرفَعُهُۥۚ وَٱلّذِینَ یَمكُرُونَ ٱلسّیّئاتِ لَهُم عَذَاب شَدِید وَمَكرُ أُو۟لَـٰىٕكَ هُوَ یَبُورُ﴾ [فاطر 10]، الله يقبل ما هو طيب من كلام وعمل صالح ولا يقبل دون ذلك، ومن يريد العزة فهي لله وطلبها يكون منه وحده ولا يكون ذلك الا بطاعته والانصياع لشروطه لأن فيها تقويما لنا.
إبليس والنرجسية
بينا سابقا أن إبليس اختار أناه غرورا وتكبرا حتى لا يصغر أمام الرحمة الإلهية وقبل أن يكون في أسفل السافلين، وهذا الحب المفرط لأناه هو تجسيد لنرجسية مطلقة، وحال النرجسي كحال إبليس تجده يحب نفسه ومصلحته أكثر من أي شيء في الوجود، وإن حاول التفاعل مع الآخرين وإقامة تواصل معهم فسيتصرف بمثالية مفرطة؛ وفخه المعروف هو الحب اللامشروط والتقبل اللامحدود فيغرق الطرف المقابل في وهم وشتات ويظهر نفسه على أنه نهر من الحب والنوايا الحسنة، وما ذلك إلا تمهيد للسيطرة عليه واستنزافه ببطء لتحقيق اكتفائه الذاتي الناتج عن نقص وخلل نفسي فيه، وبذلك تعزز أناه المغرورة وتسد بعض الفراغات داخله، لهذا لا يهمه من أنت ولا ماهيتك ولا حقيقتك فالهدف هو تحقيق مصلحته الشخصية على حساب الآخرين، ولو تمعنا في علاقاتهم لا نجد فيها صلات حقيقة فالحب اللامشروط يفضي إلى تحرر من الروابط والمسؤوليات ولاهدف له إلا تحقيق غايات شخصية وما الطرف الآخر إلا وسيلة مؤقتة فلا يشترط عليه شيئا، لذلك لا تهمه مصلحته ولا مآله في آخر الرحلة، كإبليس يريد أن يأكل الفاكهة دون مسار وشرطية صحيحة، وهذا فعل الملعون الذي يفتن الناس بأكل الفواكه دون خضوع لباب الشرطيات، إبليس يقنعك بأنه لا يهتم لما أنت عليه ويقنعك أنه يسامحك ويغفر لك مهما فعلت فيتجسد لك كالرب ويقول أنا لست مثله، فلا أكلفك ولا أثقلك بالشروط والمعايير وأحبك حبا لا مشروطا يسعك في كل حالاتك، ويتهم الله بالنرجسية والسادية وما ذلك إلا اسقاط لعيوبه على الله.
الشرطية تحقيق للاتصال واللاشرطية هي انفصال ولعنة
الله بحبه الحقيقي يفرض شروطا لك لتتطهر وتعيش على فطرتك وتكون في أفضل حلة لك، وإذا ذهبت الشروط إعلم أنك فقدت الاتصال لذلك الله العزيز العلي الحكيم وضع لك شروطا وكلفك على حسب قدرتك ﴿وَلَا نُكَلّفُ نَفسًا إِلّا وُسعَهَا وَلَدَینَا كِتَـٰب یَنطِقُ بِٱلحَقِّ وَهُم لَا یُظلَمُونَ﴾ [المؤمنون 62]،كي تتصل وتصلي وإذا لم تتقيد بالشروط تفقد الاتصال وعندما تفقد الاتصال فهذا هو التعبير الأدق للعنة، إبليس لُعن لأنه فقد الاتصال بالله وتكلم بأناه﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلّا تَسجُدَ إِذ أَمَرتك قَالَ أَنَا خَیر مّنهُ خَلَقتَنِی مِن نّار وَخَلَقتَهُۥ مِن طِین﴾ [الأعراف 12]، رفض الطاعة والاستجابة للحق واختار أناه واتصل بنفسه ونرجسيته، إن الخضوع للشرطية يعني أنك في استقامة ومتصل بالخير والمصدر الحق، وإن فقدت هذه الاستقامة فأنت ابتعدت واتصلت بأبعاد الغي والسفاهة، وصرت من المبعدين الملعونين، والله ليس هو من لعنك بل أنت من أبعدت نفسك ولعنتها.
ومن نواتج الحب اللامشروط قطع الصلة بالأصل لأن إن آمنت بالفكرة فلن تقبل بالشروط التي وضعها الله لك لتعود إليه، فتتهمه بهتانا وكفرا بما ليس فيه وتظن أنه إله مزيف، وتبحث عن إله آخر يتقبلك بأوزارك ودناءتك وكل الصفات السيئة التي لا تليق بالإنسان المستخلف وهذا الذي تبحث عنه ما هو إلا إبليس، وتظهر مفرزات الحب اللامشروط أيضا في قطع العلاقات بالوالدين اللذين يرمزان للأصل، يقول تعالى ﴿ وَقَضَىٰ رَبّكَ أَلا تَعبُدُوا إِلّا إِیّاهُ وَبِٱلوَ ٰلِدَینِ إِحسَـٰنًا إِمّا یَبلُغَنَّ عِندَكَ ٱلكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لّهُمَا أُفّ وَلَا تَنهَرهُمَا وَقُل لّهُمَا قَولا كَرِیما﴾ [الإسراء ٢٣]، فتلومهم لأنهم لم يحبوك بلا شرط ولم يتقبلوك بأخطائك وحاولوا توجيهك، وهذا القطع كما بينا في المقالات السابقة هو هدف إبليس وأتباعه يقطعك عن أصلك ويصلك بالوهم والأشباح فتغرق في الأبعاد والشتات حتى تلعن.