ماهية البصيرة
قبل أن نبين ماهية البصيرة الحقيقية وجب علينا الرجوع إلى مصطلحات لها علاقة وطيدة بها وهي الوحي والفؤاد ولنبدأ بالوحي، كما قلنا في البثوث السابقة ووضحنا في المقالات أن الوحي هو عملية تعليم وترميز إلهية.
أنظر للمقالات التالية:
أي أن الوحي هو عبارة عن رموز يلقيها الله في الإنسان فيتعلم آيات الله ويفهم رمزيتها ومقصدها، والوحي عملية ذات شقين الأول قابلية لفهم الرمز، والثاني إعادة تركيب لهذا الرمز في كلمات.
الفؤاد مجمع الحواس:
أما الفؤاد فنجده في الكتاب مذكورا دائما باقتران مع الحواس السمع والأبصار، لهذا فمدخلات الحواس من العالم الخارجي تنتقل في مجملها إلى الفؤاد، ومنها يكون الفؤاد هو مجمع الحواس، ودليل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَصۡبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَـٰرِغًاۖ إِن كَادَتۡ لَتُبۡدِی بِهِۦ لَوۡلَاۤ أَن رَّبَطۡنَا عَلَىٰ قَلۡبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ (10) وَقَالَتۡ لِأُخۡتِهِۦ قُصِّیهِۖ فَبَصُرَتۡ بِهِۦ عَن جُنُبࣲ وَهُمۡ لَا یَشۡعُرُونَ(11)﴾ [القصص 10-11]، وتبين الآية أن أم موسى عندما غاب خبر ابنها عن حواسها أي أصبح موسى خارجا عن مجال حسها سمعا وبصرا، أصبح فؤادها فارغا، وكادت أن تفصح بأنه ابنها لولا أن ربط الله على قلبها كي تكون من المؤمنين، فالله ربط على قلبها بالوحي أي عزز لها إشارات وعلامات لتؤمن(اوحي لها)، وكل ذلك ليس ضمن الحواس لأنه لو كان ضمنها لما فرغ فؤادها.
إذن البصيرة هي عملية تلقي للرموز الإلهية أو الوحي الإلهي وتفرس وتدبر فيها وفهمها وتقفيها للوصول إلى الإيمان، لأن سبب تلقي أم موسى للوحي هو الإيمان بالله، وإيمان بوعد الله لها بأن يرد ابنها إليها في قوله تعالى: ﴿وَأَوۡحَیۡنَاۤ إِلَىٰۤ أُمِّ مُوسَىٰۤ أَنۡ أَرۡضِعِیهِۖ فَإِذَا خِفۡتِ عَلَیۡهِ فَأَلۡقِیهِ فِی ٱلۡیَمِّ وَلَا تَخَافِی وَلَا تَحۡزَنِیۤۖ إِنَّا رَاۤدُّوهُ إِلَیۡكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِینَ﴾ [سورة القصص من الآية 7].
البصيرة الحقيقية:
والبصيرة غير البصر المادي فالأولى مرتبطة بالقلب والإيمان والثاني بالعين والحواس والموجودات، وفي هذا بيان للفرق بين البصيرة الحقيقية والمزيفة، فالبصيرة خارجة عن مجال الحس لأنها تتلقى الوحي وما الوحي إلا رموز مجردة تقودنا نحو المصدر وكمال فهم الرمز الجمع بين شكله ومعناه، وكل فهم يوصل إلى توحيد الرموز كلها في إيمان واحد بألوهية الواحد فتلك عين البصيرة، أما البصيرة المزيفة فهي متعلقة بالشكل و المادة لا بالمعنى والتجريد.
البصيرة المزيفة في حكاية موسى والسامري:
مثال للبصيرة المزيفة بصيرة السامري وفي الآيتين توضيح لذلك، ﴿قَالَ بَصُرۡتُ بِمَا لَمۡ یَبۡصُرُوا۟ بِهِۦ فَقَبَضۡتُ قَبۡضَةࣰ مِّنۡ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ فَنَبَذۡتُهَا وَكَذَ ٰلِكَ سَوَّلَتۡ لِی نَفۡسِی(96)قَالَ فَٱذۡهَبۡ فَإِنَّ لَكَ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَۖ وَإِنَّ لَكَ مَوۡعِدࣰا لَّن تُخۡلَفَهُۥۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰۤ إِلَـٰهِكَ ٱلَّذِی ظَلۡتَ عَلَیۡهِ عَاكِفࣰاۖ لَّنُحَرِّقَنَّهُۥ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُۥ فِی ٱلۡیَمِّ نَسۡفًا (97)﴾ [سورة طه الآيتان 96-97]، كما علمنا أن حكاية موسى كلها رموز وآيات للفهم والتدبر بغية مساس السر المكنون، وهذا السر هو معنوي غير مجسد أو مكون قد احتجب بالشكل والماديات، وللوصول إلى مساسه وجب علينا التخلص من الأوزار والأحمال المادية، السامري ظن أنه فهم موسى وأتخذ أثره طريقا لكنه في الحقيقة لم يمس المعنى بل افتتن بالشكل والمادة، وأراد أن يجسد أثر موسى في عجل له خوار أي شكل خالي من المعنى والجوهر، واتبعه في ذلك قوم موسى لأنهم من الأول كانوا يستصعبون فهم الرموز ويميلون إلى الأشكال والتجسيم حيث افتتنوا بالأصنام التي مروا عليها وأرادوا أن يتخذوا منها آلهة وكذلك فعل السامري.
النزعة لتجسيد الله والوقوع في الإلحاد:
وقع موسى أيضا في العجل والعجلة رغم قابليته العالية لفهم الرموز وقال﴿وَلَمَّا جَاۤءَ مُوسَىٰ لِمِیقَـٰتِنَا وَكَلَّمَهُۥ رَبُّهُۥ قَالَ رَبِّ أَرِنِیۤ أَنظُرۡ إِلَیۡكَۚ قَالَ لَن تَرَىٰنِی وَلَـٰكِنِ ٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡجَبَلِ فَإِنِ ٱسۡتَقَرَّ مَكَانَهُۥ فَسَوۡفَ تَرَىٰنِیۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلۡجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكࣰّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقࣰاۚ فَلَمَّاۤ أَفَاقَ قَالَ سُبۡحَـٰنَكَ تُبۡتُ إِلَیۡكَ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ [الأعراف 143]، فموسى رغم إيمانه أراد أن يرى الله وذلك غير ممكن إلا إن استقر الجبل مكانه وفي هذا رمزية للموت، (قلنا في مقال الجبل و الطير أن الجبل رمز للجسد) حيث يمكن أن تحصل تلك الرؤية عند الخروج من هذا العالم المضبوط المجسد إلى العالم المطلق المجرد ويكون ذلك بالموت، وقد بين الله ذلك لموسى وهداه، لهذا لا يمكن أن ترى الله أو تكلمه دون وحي أو رمز أو من وراء حجاب لأن هذا الوجود لا يمكن أن يحتويه فهو عالم لتقفي الرموز وتذكر الذكرى وليس عالما للكشف والبيان، وهذا سبب وقوع الكثيرين في الإلحاد.
الفرق بين الوحي الإلهي والإلهام الإبليسي:
هناك إيحاء وهناك إلهام، الإيحاء من الوحي كما بينا وله أصل ثابت وأسباب واضحة وفروع ونتائج حقيقية، هو أفكار حقيقية مرموزة ومعلومة ومشفرة، ومثال الوحي كقوله تعالى ﴿أَلَمۡ تَرَ كَیۡفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلࣰا كَلِمَةࣰ طَیِّبَةࣰ كَشَجَرَةࣲ طَیِّبَةٍ أَصۡلُهَا ثَابِتࣱ وَفَرۡعُهَا فِی ٱلسَّمَاۤءِ﴾ [إبراهيم 24]. أما الإلهام فهو عبارة عن أفكار متوهمة لا أصل ولا أسباب حقيقية لها ومعانيها غير مبررة، وفي الغالب يكون سببها التواصل مع القرناء في اعتقادا أنها الروح، لهذا ما يقذف فيهم من إلهامات ماهو إلا وهم يلهمونه من قرناء متشيطينين يريدون الظهور وهذا هو سبب الجدال الأزلي بين أدم وإبليس.